البيوت في معلمة المغرب
أسامة الزكاري
أسامة الزكاري
من المؤكد أن
قرية «البيوت» الواقعة ضمن الامتداد المجالي لقبيلة أنجرة المجاورة لمدينة سبتة
المحتلة، قد ظلت عرضة للنسيان وللتجاهل لدى قطاعات عريضة من الباحثين ومن المؤرخين
الذين اهتموا بالتوثيق لتطور حركات المقاومة الشعبية بشمال المغرب ضد الاحتلال
الإسباني لأجزاء ترابية من هذه المنطقة خلال القرنين 19 و20 الميلاديين. ونتيجة
لذلك، فقد ظلت القرية مجهولة لدى عموم مكونات الرأي العام، بل وحتى لدى العديد من
الباحثين ومن المهتمين، بالرغم من أن تاريخها يشهد لها بمسيرة رائدة في مجال
مدافعة جحافل الغزو الإسباني لبلادنا على امتداد فترات زمنية طويلة من تاريخنا
النضالي والجهادي. ونكاد لا نجد سببا مقبولا لهذا التناسي الماكر، سوى تبعات آلة
المحو والجحود والتنكر لكل القيم الأدبية التي اختطتها منطقة الشمال في مجال دعم
الانتماء الوطني وترسيخ قيم الوفاء لهذا الانتماء. وكان علينا انتظار صدور جهود
الباحث المؤرخ محمد ابن عزوز حكيم في مجال التنقيب
عن ذاكرة هذه القرية المنسية، وتجميع مظانها المصدرية والمرجعية الموزعة
بين المصنفات الكلاسيكية والوثائق الدفينة الموجودة بكل من إسبانيا والمغرب. ويمكن
القول إن ما أورده الباحث المذكور بهذا الخصوص ضمن موسوعة «معلمة المغرب»، يظل خير
ما يمكن أن يستدل به على القيمة التاريخية الكبرى التي اكتستها قرية «البيوت» في
مجال ترصيص معالم الذاكرة المجاهدة لمنطقة شمال لمغرب.
وردت مادة «البيوت» في الجزء السادس من «معلمة المغرب»، الصادر سنة 1992، وذلك في الصفحتين رقم 1971 ورقم 1972، مرفوقة بخريطة توضيحية دقيقة وبلائحة بيبليوغرافية انتقاها ابن عزوز حكيم بعناية فائقة لإغناء مجال البحث والتوثيق. وبخصوص أهم الوقائع التاريخية المميزة لماضي قرية «البيوت»، فقد لخصها المؤلف بدقة وبتركيز كبيرين، عندما قال: «البيوت: قرية بفرقة الغابويين من قبيلة أنجرة، اشتهرت بكونها أصبحت منذ تأسيسها،إن لم نقل إنها أسست لذلك، رباطا للمجاهدين الذين كانوا يحاصرون مدينة سبتة منذ احتلالها من طرف البرتغال سنة 1415/818. وعندما قام الجيش الإسباني بغزو المغرب انطلاقا من مدينة سبتة عام 1859/1276، كانت قرية البيوت مكان تجمع القوات المغربية النظامية والمجاهدين المتطوعين. وتقول الوثائق الإسبانية إنه في سنة 1911/1330 عندما بدأت القوات الإسبانية المرابطة بمدينة سبتة تمهد لاحتلال مدينة تطوان، كان عليها أن تحسب للمجاهدين سكان قرية البيوت ألف حساب وذلك لأنهم يعتبرون أكثر المجاهدين المغاربة شجاعة وحماسة بقبيلة أنجرة.
وقد تمكن الجيش الإسباني من احتلال عدة أماكن مجاورة لقرية البيوت مثل كدية فدريكو وكدية بني مزالة... لكنه لم يستطع الاستيلاء على قرية البيوت بالرغم من المحاولات العديدة التي قام بها. وبعد أن احتلت القوات الإسبانية مدينة تطوان... يوم 19 فبراير 1913،ظلت قافلات التموين الإسبانية تتعرض في طريقها من سبتة إلى المدينة المذكورة لهجومات مجاهدي البيوت، الشيء الذي أدى إلى وقوع معارك بكدية الفحامين وكدية أفرسيان وكدية فدريكو ودار الريفيين... وقد فقد فيها الإسبان ثمانين ضابطا ومائتي جندي، وهذا ما جعل القيادة العسكرية الإسبانية تفكر من جديد في الاستيلاء على قرية البيوت، ومن أجل ذلك حشدت بمدينة سبتة جيشا يتكون من 22000 من المنشأة، و6000 من الفرسان وعين على رأسه الجنرال ميلانس. وفي 29 يونيو 1916 توجهت القوات المذكورة إلى قرية البيوت حيث جرت معركة دامية مات فيها من الإسبان كولونيل واحد وكومندارن وثلاثة ضباط صغار وواحد وسبعون جنديا، وجرح كولونيل آخر واثنان وعشرون ضابطا ومائتان وإثنان وستون جنديا، وكان من بين الجرحى القبطان فرانكو الذي سيصبح رئيسا للدولة الإسبانية.
وجاء في البرقية التي وجهها المقيم العام بتطوان الجنرال خوردانا إلى حكومته يوم 26 يوليوز: «إني أعتبر أن العملية التي مكنتنا من احتلال البيوت من أهم العمليات العسكرية التي قمنا بها لحد الآن بأرض إفريقيا على الإطلاق». والدليل على صحة ذلك أن الجيش الإسباني ما كان له أن يتمكن من احتلال قرية البيوت لولا مشاركة الشريف الريسوني في العملية على رأس 6000 من رجاله. ولمشاركة الريسوني في العملية سببان: الأول هو أنه كان في حالة هدنة مع الإسبانيين منذ أن وقع معهم اتفاقية سبتمبر سنة 1915 التي فرضتها الظروف الناتجة عن الحرب العالمية الأولى، والسبب الثاني هو أن الشريف وجد في ذلك فرصة لتأديب قبيلة أنجرة التي كانت هي القبيلة الجبلية الوحيدة التي رفضت الانضمام إلى حركة المقاومة المسلحة التي كان يقودها الشريف الريسوني».
وكيفما كان الحال، وبغض النظر عن موقف سكان عموم قبيلة أنجرة من حركة أحمد الريسوني، وعن مبرراتهم ودوافعهم التي تحكمت في هذا الموقف، فالمؤكد أن قرية «البيوت» قد اضطلعت بدور مركزي في عرقلة عمليات الغزو الميداني التي قام بها الاستعمار الإسباني، ليس فقط خلال مرحلة ما بعد سنة 1912، ولكن على امتداد الفترات الزمنية الطويلة التي أعقبت احتلال الإسبان لمدينة سبتة خلال القرن 15م كما هو معروف. ولا شك أن الانكباب الجدي والنزيه للبحث في حقيقة المقاومة التي أشعلتها هذه القرية في وجه قوات الغزو الكولونياني الإسباني، وكذا في وجه بعض الزعامات المحلية التي فرضت سطوتها وتسلطها على المنطقة وعلى ساكنتها، سيساهم في إعادة كتابة صفحات النضال المجيد والجهاد الأبي التي دونت ـ من خلالها ـ قرى شمال المغرب إسهاماتها في سجل الوطنية المغربية الحقة وفي ملاحم البذل والعطاء والتضحية التي لم تكن تنضبط لأي حدود ولم تتمايل مع أي أهواء ولم تتخف وراء أي قناع أو طموح نفعي لدى الذوات والجماعات. إنها مسيرة مجاهدي الأمة الأتقياء الذين وحدوا كلمتهم وراء ذات جماعية، انصهرت فيها الذات الفردية داخل بوتقة هوية مشتركة عنوانها الاعتزاز بالانتماء إلى هذه الأرض، وأفقها الاستعداد الدائم من أجل تحصين هذا الانتماء والدفاع عنه
وردت مادة «البيوت» في الجزء السادس من «معلمة المغرب»، الصادر سنة 1992، وذلك في الصفحتين رقم 1971 ورقم 1972، مرفوقة بخريطة توضيحية دقيقة وبلائحة بيبليوغرافية انتقاها ابن عزوز حكيم بعناية فائقة لإغناء مجال البحث والتوثيق. وبخصوص أهم الوقائع التاريخية المميزة لماضي قرية «البيوت»، فقد لخصها المؤلف بدقة وبتركيز كبيرين، عندما قال: «البيوت: قرية بفرقة الغابويين من قبيلة أنجرة، اشتهرت بكونها أصبحت منذ تأسيسها،إن لم نقل إنها أسست لذلك، رباطا للمجاهدين الذين كانوا يحاصرون مدينة سبتة منذ احتلالها من طرف البرتغال سنة 1415/818. وعندما قام الجيش الإسباني بغزو المغرب انطلاقا من مدينة سبتة عام 1859/1276، كانت قرية البيوت مكان تجمع القوات المغربية النظامية والمجاهدين المتطوعين. وتقول الوثائق الإسبانية إنه في سنة 1911/1330 عندما بدأت القوات الإسبانية المرابطة بمدينة سبتة تمهد لاحتلال مدينة تطوان، كان عليها أن تحسب للمجاهدين سكان قرية البيوت ألف حساب وذلك لأنهم يعتبرون أكثر المجاهدين المغاربة شجاعة وحماسة بقبيلة أنجرة.
وقد تمكن الجيش الإسباني من احتلال عدة أماكن مجاورة لقرية البيوت مثل كدية فدريكو وكدية بني مزالة... لكنه لم يستطع الاستيلاء على قرية البيوت بالرغم من المحاولات العديدة التي قام بها. وبعد أن احتلت القوات الإسبانية مدينة تطوان... يوم 19 فبراير 1913،ظلت قافلات التموين الإسبانية تتعرض في طريقها من سبتة إلى المدينة المذكورة لهجومات مجاهدي البيوت، الشيء الذي أدى إلى وقوع معارك بكدية الفحامين وكدية أفرسيان وكدية فدريكو ودار الريفيين... وقد فقد فيها الإسبان ثمانين ضابطا ومائتي جندي، وهذا ما جعل القيادة العسكرية الإسبانية تفكر من جديد في الاستيلاء على قرية البيوت، ومن أجل ذلك حشدت بمدينة سبتة جيشا يتكون من 22000 من المنشأة، و6000 من الفرسان وعين على رأسه الجنرال ميلانس. وفي 29 يونيو 1916 توجهت القوات المذكورة إلى قرية البيوت حيث جرت معركة دامية مات فيها من الإسبان كولونيل واحد وكومندارن وثلاثة ضباط صغار وواحد وسبعون جنديا، وجرح كولونيل آخر واثنان وعشرون ضابطا ومائتان وإثنان وستون جنديا، وكان من بين الجرحى القبطان فرانكو الذي سيصبح رئيسا للدولة الإسبانية.
وجاء في البرقية التي وجهها المقيم العام بتطوان الجنرال خوردانا إلى حكومته يوم 26 يوليوز: «إني أعتبر أن العملية التي مكنتنا من احتلال البيوت من أهم العمليات العسكرية التي قمنا بها لحد الآن بأرض إفريقيا على الإطلاق». والدليل على صحة ذلك أن الجيش الإسباني ما كان له أن يتمكن من احتلال قرية البيوت لولا مشاركة الشريف الريسوني في العملية على رأس 6000 من رجاله. ولمشاركة الريسوني في العملية سببان: الأول هو أنه كان في حالة هدنة مع الإسبانيين منذ أن وقع معهم اتفاقية سبتمبر سنة 1915 التي فرضتها الظروف الناتجة عن الحرب العالمية الأولى، والسبب الثاني هو أن الشريف وجد في ذلك فرصة لتأديب قبيلة أنجرة التي كانت هي القبيلة الجبلية الوحيدة التي رفضت الانضمام إلى حركة المقاومة المسلحة التي كان يقودها الشريف الريسوني».
وكيفما كان الحال، وبغض النظر عن موقف سكان عموم قبيلة أنجرة من حركة أحمد الريسوني، وعن مبرراتهم ودوافعهم التي تحكمت في هذا الموقف، فالمؤكد أن قرية «البيوت» قد اضطلعت بدور مركزي في عرقلة عمليات الغزو الميداني التي قام بها الاستعمار الإسباني، ليس فقط خلال مرحلة ما بعد سنة 1912، ولكن على امتداد الفترات الزمنية الطويلة التي أعقبت احتلال الإسبان لمدينة سبتة خلال القرن 15م كما هو معروف. ولا شك أن الانكباب الجدي والنزيه للبحث في حقيقة المقاومة التي أشعلتها هذه القرية في وجه قوات الغزو الكولونياني الإسباني، وكذا في وجه بعض الزعامات المحلية التي فرضت سطوتها وتسلطها على المنطقة وعلى ساكنتها، سيساهم في إعادة كتابة صفحات النضال المجيد والجهاد الأبي التي دونت ـ من خلالها ـ قرى شمال المغرب إسهاماتها في سجل الوطنية المغربية الحقة وفي ملاحم البذل والعطاء والتضحية التي لم تكن تنضبط لأي حدود ولم تتمايل مع أي أهواء ولم تتخف وراء أي قناع أو طموح نفعي لدى الذوات والجماعات. إنها مسيرة مجاهدي الأمة الأتقياء الذين وحدوا كلمتهم وراء ذات جماعية، انصهرت فيها الذات الفردية داخل بوتقة هوية مشتركة عنوانها الاعتزاز بالانتماء إلى هذه الأرض، وأفقها الاستعداد الدائم من أجل تحصين هذا الانتماء والدفاع عنه
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire